أسباب اختلاف المحدثين في النقد: قضايا ونماذج

ألقى فضيلة الأستاذ الدكتور محمد ناصيري أستاذ مادة الحديث وعلومه بمعهد محمد السادس للأئمة المرشدين والمرشدات وبمؤسسة دار الحديث الحسنية، محاضرة علمية عبر منصة تيمس لفائدة الأئمة المرشدين والمرشدات، تحت عنوان: "أسباب اختلاف المحدثين في النقد: قضايا ونماذج".
0
أسباب اختلاف المحدثين في النقد: قضايا ونماذجأسباب اختلاف المحدثين في النقد: قضايا ونماذج

النقد عند المحدثين

 هو تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة والحكم على الرواة توثيقا وتجريحا. وتعتبر عملية النقد الحديثي عملا يقوم على الاجتهاد والنظر، ولذلك اصطبغت علوم الحديث بصبغة الاجتهاد الذي من أثره الاختلاف.

وترجع أسباب اختلاف المحدثين إلى سببين كبيرين تتفرع عنهما أسباب أخرى:

أولا: تصور الناقد لموضوعات النقد.

وهذا السبب من أعظم الأسباب المؤدية إلى اختلاف المحدثين، ذلك أن نقاد الحديث يسلكون في نقد مرويات الرواة مسلكين:

  • مسلك المتقدمين: الذين يتتبعون أحاديث الراوي الواحد ويفحصونها ويميزون بين صحيحها وضعيفها؛ فلا يردون الراوي لمجرد خطئه في حديث ما، ومعتمدهم في ذلك الاستقراء والتتبع والمعارضة، ويخلصون إلى نتيجة تؤكد ضبطه التام أو كونه خفيف الضبط أو أن له أوهاما كثيرة إلى أن يصل إلى درجة سيء الحفظ. ومثاله: قصة يحيى بن معين في تتبعه لأحاديث حماد بن سلمة؛ لأنه وجد في أحاديثه أخطاء فأراد تمييز خطئه من خطإ غيره.
  • مسلك ابن حزم ومن سار على منهجه: المتمثل في قبول مرويات الراوي الثقة وعصمته عصمة معينة، فلا يمكن اتهامه إلا بيقين سواء بتصريح الراوي نفسه، أو قيام حجة قاطعة على ذلك، أو وجود دليل قاطع على مخالفته لما عنده. كما صرح بذلك في كتابه الإحكام. ونتج عن هذا التصور عدم الاعتداد بما يحصل عندما تتعدد طرق الحديث من مخرج واحد فلا يقول بالاضطراب، وترتب عنه أيضا عدم اعتبار الشذوذ في الروايات عنده. فابن حزم لا يرى إلا تصحيح الطريق الذي بين يديه ولا يلتفت إلى طريق آخر كيفما كان نوعه.

ثانيا: الأدلة المتوفرة في عملية النقد الحديثي عند كل ناقد وبناؤها على سعة الاطلاع:

فإذا كانت عملية النقد تنبني أساسا على تتبع الرواة وفحص رواياتهم فإنه ينتج عنه اختلاف النقاد في الحكم على الحديث بناء على ما اطلع عليه من الطرق؛ فقد يصح عند بعضهم حديث ما بناء على على ما اطلع عليه، والبعض الآخر يضعفه لكونه لم يطلع على ذلك الطريق الصحيح وإنما كل الطرق التي عرفها تكون ضعيفة، ومن أمثلته قصة الإمام شعبة رحمه الله عندما تتبع حديث عقبة رضي الله عنه الذي رواه أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن عطاء ورحل في معرفة مخرجه، فضعفه لسقوط بعض الرواة منه.

فالنقد في الزمن الأول كان يقوم على الاستقصاء واستقراء المرويات بكاملها وأيضا معارضتها ببعضها البعض إلى أن يصلوا إلى الصواب، وإلى الخطإ إن وجد.

ثالثا: أسباب أخرى متفرعة عن السببن السابقين منها:

قضية الاختلاف في الحكم على الحديث بناء على السند

من المحدثين من يحكم على الطريق الذي بين يديه انطلاقا من الحكم الصادر على ذلك الراوي المبني على ما توصل إليه مستقرئ طرقه فيحكم عليه بالضعف، وهذا ما حصل لابن الجوزي كما صرح بذلك السيوطي رحمه الله في مقدمة اللآلئ المصنوعة، فكتاب الموضوعات لابن الجوزي انتقده العلماء كالسخاوي في فتح المغيث قائلا: ابن الجوزي حكم على أحاديث بالوضع وهي في الصحيح، وحكم على أحاديث حسنة، وأصاب في عدد من الأحاديث في الحكم عليها بالوضع. وسبب ذلك حكمه على الحديث بناء على السند الذي بين يديه بوجود راو متهم بالكذب فيصبح حديثه موضوعا بناء على ذلك، بينما لذلك الحديث طرق أخرى هو بها صحيح. فمن لم ينتبه إلى هذا الأمر يعتقد على أن الحديث موضوع، ولكن الحديث في الحقيقة ثابت من طرق أخرى.

قضية الاختلاف في الحكم على الراوي نفسه

ذلك أن الراوي الذي حكم عليه النقاد قد لا يكون الاتفاق على ضعفه وإنما ضعف من جهة خاصة أو وصف بالكذب وصفا خاصا، وسبب ذلك راجع إلى أن النقاد لهم مناهج في التضعيف والتوثيق بالنسبة للرواة فهم ما بين متشدد ومتساهل ومعتدل. ومن أمثلته اختلافهم في عبد الله بن لهيعة؛ فوثقه بعضهم مطلقا، وضعفه بعضهم مطلقا، وتوسط فيه آخرون، بناء على اعتبارات خاصة.

قضية اختلاف النقاد في اعتبار السند

ذلك أنه يعتمد البعض السند في النقد ويتجاوزه آخروه. فالأصل لقبول الرواية وردّها هو السند عند النقاد، لكن بعضهم قبلوا أحاديث من غير اعتبار للسند، كصنيع حافظ المغرب أبي عمر يوسف بن عبد البر - رحمه الله - فإنه قبِل أحاديث كثيرة بناء على شهرتها، وقعّد قاعدة وهي: "شهرة الحديث تغني عن سنده". ونجد هذا الأمر عند الحافظ ابن حجر بشكل أقل. ومستندهم في ذلك عمل الأئمة الفقهاء كمالك والأوزاعي وإبراهيم النخعي وأبي حنيفة - رحمهم الله تعالى - الذين اعتمدوا في قبول الأحاديث على العمل واعتبروا نقله أصح من نقل الأحاديث؛ لأن عددا كبيرا من الأحاديث التي جاءت معانيها فقها متداولا مشهورا منتشرا، فيكون بهذا الاعتبار الحديث - وإن لم تكن له طرق على الشرط الذي استقر عليه الأمر فيما بعد عند المحدثين – مقبولا، ويكون مردودا بناء على الشروط الأخرى.

قضية الاختلاف في عدالة الراوي وخاصة في مجهول الحال

فيتعبر بعض النقاد كابن عبد البر كلَّ مشهور بالعلم - وإن لم يزكيه مزكٍّ من النقاد - مقبول الرواية إذا لم يكن فيها ما يدعوا إلى التشكيك أو الطعن. وهذا أدى إلى اختلاف بين النقاد في بعض الرواة وترتب عنه اختلاف في مروياتهم. فالسبب هنا هو تصور أحد النقاد بمقارنته مع تصور ناقد آخر، فيرى بعض النقاد أن الأصل في مرويات الراوي التوقف، وبالتالي لا بد من توثيق وتعديل، بينما لا يرى آخرون التوقف وإنما يرون اشتهاره بالعلم والطلب محمولا على العدالة.

قضية الاختلاف في اتصال السند

فيشترط بعض النقاد الاتصال لقبول الأحاديث ولم يعتبره بعضهم، ومن فروع شرط الاتصال: الحديث المرسل، الذي قبِله بعضهم فصححه واعتد به. والبعض الآخر لم يقبله وردّه بناء على انقطاعه. ويقصد بالمرسل هنا ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فظاهره الانقطاع، لكنهم اختلفوا في قبوله بناء على عدم المعرفة بمن سقط في الإسناد هل هو ثقة أم ضعيف؟؛ فالمتقدمون حملوا مراسيل الثقات من قبيل الاتصال الباطن (الحكمي)، وهو أصل مجمع عليه عندهم كما نص عليه الطبري رحمه الله، ونقله أبو داود رحمه الله في رسالته إلى أهل مكة، واشترطوا لقبوله أن يكون من ثقة فقيه. لكنه لما  أصبح الحديث يؤخذ عن كل ضرب تشددوا في إبراز كل أطراف السند وطبقاته. فنظرة المحدث إلى المرسل هو أحد أسباب الاختلاف؛ فمن رآه بشرطه يتضمن وصلا باطنيا قبِله، ومن رآه خلاف ذلك ردّه.

قضية الاختلاف في اعتبار العلة

العلة قادح خفي في السند الذي ظاهره الصحة، وقد تفاوت النقاد في اعتبار هذا القادح الخفي؛ فمن اعتبر هذا القادح الخفي ضعف الحديث بسببه. ومن لم يعتبره لا يرى تضعيف الحديث. ومن الأمثلة التطبيقية لهذه القضية: كتاب تهذيب الآثار للطبري - رحمه الله -، فهو يذكر الأحاديث وسبب صحتها عنده، ثم يذكر ما يكون علة عند البعض وسببا لتضعيفه. فإذن هذه العلل التي يذكرها يرى عند البعض أنها علة قادحة، ولكن بالنسبة إليه لا يراها عللا قادحة.

قضية الاختلاف في الاعتداد بكثرة الطرق تقويةً للحديث الضعيف

نجد بعض الأحاديث تتعدد طرقها ولكن كل طرقها ضعيفة؛ فمن النقاد المحدثين من يرقيها إلى درجة الحسن، ومنهم من لا يرقيها إلى درجته. ومثاله حديث: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا ...". فكل طرق هذا الحديث ضعيفة ويكاد النقاد يجمعون على أنه لا يكاد يرتقي إلى درجة الحسن، ولكن حسنه بعضهم بهذه الطرق. فالاختلاف في اعتبار ترقية الضعيف إلى الحسن أمر اعتباري استند فيه البعض إلى وجود الإجماع على قبوله من أهل العلم كالشافعي وغيره، بينما لم يعتبر البعض وجود الإجماع على حديث لا يجعله صحيحا بذاته لكون الإجماع حصل على غير ذلك الحديث.

وجدير بالذكر أنه عندما نجد اختلاف النقاد في الأحاديث ضرورة استحضار ما يلي:

  • صحة الحديث لا يلزم عنها العمل.
  • لا يمكن أن نلزم بما رآه البعض ضعيفا وصححه البعض الآخر، فلا نلزم السابقين بالقواعد التي جاءت بعد زمنهم؛ لأن الإمام الشافعي رحمه الله هو الذي قرر قضية المرسل كما صرح بذلك أبو داود. والمرسل كان مقبولا عند من تقدمه.
  • الترجيح بين النقاد عمل اجتهادي، ولا يكون إلا من النقاد المجتهدين العارفين بأسباب الاختلاف وقواعد الترجيح ومواقع الاتفاق، وهذا لا يكون إلا عند الحفاظ، الذين ذكرهم الذهبي في مقدمة كتابه طبقات الحفاظ.
  • سبب اتساع الاختلاف بين النقاد هو اختلافهم في مفهوم التقليد، بل جعلوا وجوده بين بعضهم البعض عيبا في المجتهد.
  • لا يسعنا نحن المتأخرين إلا تقليد المتقدمين؛ لأن مسألتنا في الحديث كمسألتنا في الفقه، والترجيح والاختيار لا يكون إلا ممن له أهلية لذلك.
  • من وسائل ترجيح اختيار التصحيح وجود الحديث في كتب اشترطت الصحة، وتنصيص النقاد على تصحيحهم كصنيع المنذري عندما يذكر تخريج ابن حبان، فيكون ذكره لتصحيح ابن حبان كأنه حكم على الحديث بالصحة خصوصا فيما سكت عنه الأئمة كأبي داود في سننه.
  • الترجيح عند اختلاف النقاد أمر صعب وشديد، ولذلك يسع المتأخرين تقليد المتقدمين وعدم الخروج عليهم.

وخلاصة القول فإن أسباب اختلاف المحدثين متنوعة تنوع الشروط الخمسة في التنزيل، وتنوع الطرق التي وردت بها الأحاديث، ويمكن إجمالها في ثلاثة أمور:

أولا: تصور الناقد لموضوعات النقد.

ثانيا: الاختلاف في التقدير لما يصحح به الحديث مثل اعتبار تعدد طرق الحديث.

ثالثا: الاختلاف في سعة الاطلاع، ذلك أن البعض الذين صححوا الحديث اطلعوا على ما لم يطلع عليه الذين ضعفوه أو العكس. كما أن الاختلاف في تصور واعتبار شروط الحديث المقبول من توفر الاتصال والضبط والعدالة وانتفاء الشذوذ والعلة موضوع دقيق يحتاج إلى مزيد بسط وبيان.

وختاما فإنه كتبت بحوث قليلة في هذا الموضوع منها: بحث قديم منشور للمحاضر نفسه بعنوان: "قضايا خلافية في نقد الحديث وفقهه: بحث في أصول الاختلاف". وبحث آخر أعده الدكتور خلدون الأحدب - رحمه الله - في رسالة الماجستير بعنوان: "أسباب اختلاف المحدثين: دراسة نقدية مقارنة حول أسباب الاختلاف في قبول الأحاديث وردها".

تلخيص الإمام المرشد: الحسين زيدان